09 أكتوبر 2009

حينما يصبح الحفظ أولوية!

أتذكر أيام الصبا، حينما كنت أمضي ما بين الظهر والمغرب في المسجد، تحت أعين المحفظ.. الهدف المسطر لنا حفظ ما تيسر من الذكر الحكيم. لا يهم أن نفهم ما نحفظ أو أن نحاول فهمه، فقط إحفظ، ثم أتل ما حفظت، ودع الفهم لذوي العقول الراجحة.. كثيرا ما كنت أتسلى في جنبات المسجد ومرافقه، أستمتع بمشهد شمولي من السطح بعد صعود المئذنة المظلمة، الملتوية أدراجها والمخيفة..

اختلف المشهد، في مدرسة ابتدائية الآن. لكن الهدف لم يختلف: علينا حفظ اسم أي شيء تقع عليه أعيننا، هذه تفاحة وتلك طماطم، والويل لمن يسأل ببراءة: "لم التفاح والطماطم من الفواكه؟" علينا حفظ الأسماء، وكفى الله الصغار شر النقاش. أخبرني أحدهم عن التلميذ النجيب، من حفظ أكبر قدر من الكلمات. مسكت المعجم وقرأته من الغلاف للغلاف، نعم! أقعس و تسبخ وهايط أفعال مررت بها، الحمد لله أن نجوت من جلطة دماغية!

وعلى حين انشغالي بالجار والمجرور، طفت لغة جديدة برسوم عجيبة: الفرنسية! تكلمت المعلمة فلم أفهم منها حرفا، ظلت تكرر: "Karim joue avec le ballon" وأنا أكتب بالعربية: "كريم جو أفيك لو بالو"، هكذا حتى أحفظ بسهولة.. رددتها بكل ثقة لأقع في ورطة كتابتها على السبورة! ولم أنج يومها..

توالت الأيام وأتى موعد القصائد، حاولت حفظها وكذلك خيل إلي. إلا أنه ومع كل موعد استظهار أكتشف نسياني لكل شيء! وأظل أدور في حلقة أول سطر.. تأكدت ذات يوم من استحالة حفظي للقصائد. أصرت أستاذة على معاقبتي فمنحتني صفرا أنيقا في مادة الإستظهار، وكان كالخاتم على نتيجتي، طابع الجودة الأصيلة.

تغير الفصل والمنهج، كانت أستاذة رائعة، قد حاولت معي بكل السبل: تخيل القصيدة أمامك وحاول قرائتها، ها هي أول الكلمات من كل سطر فأتمها، نجحت في الحفظ! لكن حفظي لا يتعدى جدران غرفتي، مع باب القسم يصبح كل شيء نسيا منسيا..

حصلنا على أستاذ يدرسنا الرياضيات فقط، عجيب! كنا ملزمين بحفظ قواعد كثيرة وطرق حل تمارين متعددة، كثيرا ما سألنا أفهمتم؟ فنجيب بكل ثقة أن سمعنا وفهمنا! كانت إجابة حفظناها عن ظهر قلب. أحيانا يسألنا عن التمارين وحلها فيسود صمت مطبق، خالفت العرف يوما فرفعت صوتي: "لم أحلها يا أستاذ"، كان علي الإلتزام بما حفظناه: الصمت المطبق..

الإجتماعيات، مادة حفظ بامتياز.. لم يكن يفرقنا عن الببغاوات الرمادية الكثير: تلقي مجموعة أسطر وفقرات، نحفظها عن قلب ظهر أو عن ظهر قلب فلا يهم، الأهم أن نستعرض ما حفظناه يوم الرعب: وعند الإمتحان يذل الحافظ أو يهان.. امتحان على شاكلة أعط تعريفا لما يلي: الأدارسة، الحرب العالمية II، المغرب العربي والبيزنطيون. كانت الصيغة الألطف للسؤال الحقيقي: أكتب حرفيا مما حفظت تعريفا للأدارسة وإلخ، كما هو مكتوب في ملخصات الأستاذ بالنقطة والفاصلة.

ارتقيت السلم المدرسي لأصل الثانوية، لم يشفع لي توجهي العلمي (التجريبي!) في التخلي عن عادة الحفظ، علينا حفظ أطوار انقسام الخلية وطريقة حركة العضلة، حفظ الخواص الهندسية والمبرهنات الرياضية، حفظ القواعد الفزيائية وأسماء المركبات الكيميائية. احفظ حتى تتخم حفظا. لم يكن مطلوبا من التلميذ فهم طريقة التنفس بقدر ما كان مطلوبا منه حفظ صفحات من ملخص الأستاذ، لاستظهارها في الإمتحان كما العادة.. وكنتيجة متوقعة: كثيرا ما ينسى التلميذ 95% من المعلومات بعد الإمتحان، أسبوع مدة كافية ليتذكر أن التنفس ما هو إلا زفير وشهيق، وأحيانا: نهيق..

كان الأمل في الجامعة كبيرا، الجامعة = مختبرات أنشطة مغامرات ابتكار تجديد وإبداع.. صورة تخيلتها للجامعة، مع بعض مبالغة فأنا في المغرب = جزء من العالم الثالث!
تدريجيا، بدأت تتكشف لي معالم الجامعة، تجارب نحفظها لنتظاهر بتطبيقها في المختبرات، أو لنقل شبه مختبرات تحريا للصدق. طُلب من أستاذ نتيجة تجربة فأجاب، سُئل لماذا هذه القيمة بالضبط؟ قال إنها القيمة التي حصل عليها فوج السنة الماضية! حتى الأساتذة يحفظون النتائج كما أنزلت ولله الحمد..

تأتي الإمتحانات فتلاحظ تفوق أحدهم، كيف ومتى؟ يبدو أنه يخفي سرا! وينكشف المستور إذ الطالب طالب العلم، لديه امتحان السنة الماضية فحفظ حله، وكتبه حرفا حرفا على ورقة التحرير.. لينجح بامتياز!

تسائلت: لم يقوم أساتذة الجامعة بتكرار نفس الإمتحانات السابقة كما هي مع تغيير التاريخ فقط؟ ألضيق الوقت؟ كذبة كبيرة! ألقلة التمارين؟ خدعة عظيمة! ألدعم الطلاب؟ عذر أقبح من ذنب..
أما الطلاب المتفوقون فينكرون تواجد نماذج امتحانات السنة الماضية في أرشيفهم السري، لولا أن لسانهم يخذلهم بعيد الإمتحان إذ يقولون: كم كان سهلا، إنه نفسه! نفس اختبار السنة الماضية!

والأساتذة مبدعون في هذا، يطرحون امتحانا عريضا لن يكفي الوقت المحدد لحله على الفاهمين، بل هو اختبار لمدى سرعة الطالب في الإستظهار. وأحيانا يتلاعب الأساتذة فيغيرون سطرا ما من نص الإمتحان لتجد الطالب يجيب اعتمادا على نموذج السنة الماضية لا الحالية! من شدة الحفظ وغلبة الإستظهار على ذي الحجى بكل تأكيد.

في فصل سابق، كنت مواظبا على دروس أستاذ كبير السن بالكلية، مجبرا.. يتحدث عن الدرس ويبدو أنه ملم بمادته. كان أن حصلت على مجموعة وثائق، كدعم من أحد أفراد العائلة الذي درس لدى نفس الأستاذ. اكتشفت يومها أن الملخص الذي يتلوه يوميا هو نفس الملخص الذي تلقاه فلان قبل حوالي عقدين من الزمن! والرهيب: ملف تطبيقي قدمه لنا، تصفحته لأجد به نفس الخربشات الموجودة بملف فلان المطبوع قبل عقدين (تاريخ الطبع: 1989). بمعنى: طيلة 20 سنة على الأقل والأستاذ القدير يكرر نفس الجمل والملخصات، ويطبع نفس الوثائق بدون بذل أي مجهود! أفترض يوما لو فقد حقيبته الجلدية تلك، سيغادر الكلية بعدها بساعات، ولن أشك في خبر انتحاره!

لا زلت بالكلية، غير أنني لا أعلق آمالا على نظامنا التعليمي.. إلا لو تغيرت قناعاتي عن الحفظ والفهم!

يا رب مددك، الحفظ شيء والفهم شيء آخر، اللهم ثبت..









تعليقات فيسبوك:


هناك 13 تعليقًا:

  1. كانت الصيغة الألطف للسؤال الحقيقي: أكتب حرفيا مما حفظت تعريفا للأدارسة وإلخ، كما هو مكتوب في ملخصات الأستاذ بالنقطة والفاصلة.

    ،، إنها مشكلتي الأزلية مع دراستي التاريخ :)
    أفرغوه من معناه تمامًا!
    ههههه، وأتذكر أول ما درست التاريخ! كنت آخذ 1.5 من 7 على ورقة إمتحان ما!
    إنجاز! في حين كنت آخذ الدرجة الكاملة في العلوم وكانت تدرسني إياها أستاذة رائعة لن أنساها طول حياتي، أستاذة لم تبال حتى بنقص دفاتري وخرابيش القطط التي أكتبها فيها مع النوم في آخر الحصة!
    كانت تثق أني أفهم الدرس وكنت لا أخيب ظنها في اختباراتي فكانت تمنحني فرصًا مع الدفتر والواجبات ولا تعاقبني عليها.. ومنحتني بطاقة تفوق في المادة مع كل هذا التقصير :)

    ،

    لم يشفع لي توجهي العلمي (التجريبي!) في التخلي عن عادة الحفظ

    كلامك يوحي أن التوجه الأدبي طبيعته الحفظ؟
    أدري أن الناس يتعاملون معه هكذا، وبما أن توجهي أدبي أجده تصورًا خاطئًا.. الحفظ وسيلة تقييد كالكتابة لا أكثر، ومشكلة المبالغة فيه وفي تطلبه انطلت على الأدبي بسهولة وتشبع الناس بها حتى صار مسلمًا أن التوجه الأدبي = حفظ
    ممممم،
    في الواقع، أجد هذه المشكلة مؤثرة كثيرًا في سير الحياة حسب ما أراه هنا..
    فطلاب التوجه الأدبي يشبّعون بأسلوب الحفظ بعيدًا عن الفهم، وكأن هذا هو الصواب!
    وحين يتخرجون من الثانوية للجامعة تمتلئ بهم أقسام مهمة جدًا للحياة، مثل الأقسام الشرعية والتي تتعلق بالفقه والدين والدعوة.. من الأشياء المذكورة صراحة حسبما أعرف أن جامعة كأم القرى تكدّس الطالبات منخفضات المستوى في هذه التخصصات -كلام عمره بضع سنوات، قد يكون الحال تغير ولا أعني أن الجميع في تلك الأقسام كذلك!-
    فالذي يحدث، أن التوجيه الروحي والإجتماعي والديني يقع بيد أناس همهم حفظ الأشياء بدلًا من فهمها، وبيد ناس لم ينعم الله عليهم بكثير ذكاء.. إلا من رحم الله..!
    وهكذا.. سهل أن نفهم ما يحدث في الحياة من ضيق أفق وقلة عقل.. ولو من أناس يفترض بهم ألا يكونوا كذلك..

    ،

    الطالب طالب العلم، لديه امتحان السنة الماضية فحفظ حله، وكتبه حرفا حرفا على ورقة التحرير.. لينجح بامتياز!

    الأمر مكشوف هنا :)
    مممم، شخصيًا استفدت في بعض المواد المزعجة من أوراق السنوات السابقة،، طبعًا لم أحفظ لكن آخذ فكرة عن الأسلوب وعن ما يهم الأستاذ..
    السخيف أن بعض الأساتذة يعرفون ذلك لكن يضعون نفس الأسئلة ويغيرون الترتيب وأشياء من هذا القبيل.. وكأنهم فعلوا إنجازًا عظيمًا!!
    أتسائل إن كان أمثالهم درسوا شيئًا يومًا ما؟

    ،

    اللهم ثبت..
    آمين.. ووفق ويسر أمر هذا الطالب النجيب وأسعد قلبه بما يحب :)

    ردحذف
  2. الحمد لله لست الوحيد الذي كان يكتب الفرنسية بالعربية
    اغلب ما قلت فعلناه ايضا او دعني اتكلم عن نفسي فعلتعه

    صراحة تدوينة تذكرني ايضا بأيام صعبة جميلة نحن اليها

    سلام

    ردحذف
  3. هههه اطحك الله سنك اخي محمد
    نفس ما عانيته لمدة 14سنة من الدراسة ههه لقد توجهت لشعبة العلمية هربا من الخفط أيطا ولكن لسوء الحظ الشعبة العلمية = الحفظ ثم الحقظ و اخيرا الفهم ^_^
    و اما غمتحان الباكلوريا فحدت ولا حرج لا مكان للفهم كل الاسئلة تنبني على الحفط حتى الرياضيات ستحصل على نقطة 20 إذا قمت بحفط اجوبة التمارين الموجودة في دفتر التمارين هههه
    العفو لله وصافي
    مازلت هنا كما كنت دائما ^_^

    ردحذف
  4. ذكرتني بطامتي الكبرى
    مشكلتي مع الحفظ
    قديما كنت أحفظ بفهم
    لكن حاليا الحفظ مهم بالنسبة لي ، للأسف لم أستطع لحد الان أن أتقلم مع الطريقة المتبعة في دراستنا
    الله يوفق الجميع ان شاء الله
    سلامووووو

    ردحذف
  5. صراحة ذكرتني بأيام الطفولة مع الآسف أن التعليم عندنا في العالم العربي مبني تماما على الحفظ وكل من يحاول أن يكسر هذه القاعدة يفشل أنا أتذكر عندما كنت صغيرا في مادة الرياضيات يجعلون الطالب يحفظ جدول الضرب بالقوة الجبرية دون فهم ممايجعله في النهاية يكره مادة الرياضيات رغم أن الرياضيات هي ام العلوم الأخرى فإذا أحبها احب العلوم الأخرى .

    ردحذف
  6. هدا هو الحال
    حفظ > استظهار = نجاح

    ردحذف
  7. أحسنت! مقال رائع، فالمفروض المزاوجة بين الحفظ والفهم وكما قيل: أول العلم الصمت ، والثاني الاستماع ، والثالث الحفظ ، والرابع العمل ، والخامس نشره، ولكن برأيي أن المطلوب منا هو عدم الفهم، فما دمنا نعاني الاستبداد فالفهم مشكلة.

    ردحذف
  8. تدوينة في الصميم .. شحصيا عندي مشكلة أزلية مع الحفظ .. لكنني أخالفك في بعض النقاط :
    بالنسبة لحفظ القرآن والشعر حتى ولو يتم فهم مانحفظه فالحفظ بحد ذاته فائدة ، فعندما نستشهد بآية من القرآن نستشهد بها كما هي ، ولا يكفي أن نفهمها ، ونفس الأمر بالنسبة للشعر ، فكثيرة هي الأشعار التي اشتهرت لجمال أسلوبها وبلاغتها أي أن حفظها حرفيا مطلوب .
    "ارتقيت السلم المدرسي لأصل الثانوية، لم يشفع لي توجهي العلمي (التجريبي!) في التخلي عن عادة الحفظ"
    أتدري أنني أحيانا أعتقد أن المواد الأدبية هي أقل تطلبا للحفظ عن المواد العلمية ؟!
    اما بالنسبة لأيام الثانوية وخصوصا في مادة الفيزياء والرياضيات فكنت في الفروض المحروسة أجلب معي ورقة بالقواعد ،وليسمه من أراد غشا، وكثيرا ما أعول عليها وبالاخير لا أجلبها معي ،وهكذا يضيع عدد من النقاط فقط بسبب قاعدة ، أو كنت أحفظ قاعدة واحدة وأبرهن على البقية انطلاقا من القاعدة التي حفظتها -__-

    ردحذف
  9. لقد كنت اعتقد الجامعة مثلك ولاسيم الكليات العملية تعتمد على الفهم ولكن ما وجدته بعد دخولى الجامعة

    ان الفهم والحفظ كلاهما مطلوبان للتحصيل الدراسى والنجاح والتفوق فالفهم يساعد على الحفظ والحفظ يساعد على الفهم بتكرار المعلومة فى الذهن وربطها مع معلومات أخرى...فمن رأيى كلاهما مهمان

    تحياتى

    ردحذف
  10. مرحبا محمد.. أتمنى أن قد زال التشويش.. :-)

    تعليقا على موضوعك.. هناك قاعدة معروفة في التعليم المغربي.. ان اتبعتها كنت من الصفوة من المتخرجين."بضاعتنا رُدت إلينا".. هذا ما يحب معظم الأساتذة لدينا ولا ترهق نفسك في محاولات الفهم، لأنهم أنفسهم لا يفهمون أصلا ما يُدرسون.

    ردحذف
  11. سوكـــــــوت الأستاذ قادم ^_^
    مشكلتي الوحيدة كانت من الفرنسية التي لا أعرف كيف كنت أنجح فيها مع كتابة العقوبة ما يزيد ع 100 في الأسبوع للأسف لا أعرف هل سجلة رقما قياسيا في إعادة الكتابة لذالك العام والشكر لتلك الأستاذة لم يعديكتب حسن خطك :)
    والمدرسين لا يأبهون بأن تحفض أو تفهم ما عليهم إلى تسجيل نقطة من 0 إلى 20 عن الإمتحان
    تذكرت الخطة الثلاثية لنجاح في الفرنسية
    السكوت+كتاب مرتب+إمتحان لا يهم إذا أخذة 2 ما دام جمعت 4/10 سابقا=النجاح

    وشكرا بتذكيري بتك الأيام

    ردحذف
  12. ونرى المشهد يتكرر كعملية النسخ واللصق في جميع البلاد العربية
    التعليم مانعايشه في واد ومايجب ان يكون عليه في واد اخر
    فهو لايتعدى تمرير المعلومات من راس الاستاذ لراس الطالب ثم افراغها على الورق
    دون اي ربط بالاخلاق او بالحياة العامة...
    وبعد ذلك يشهرون بنا في وسائل الاعلام بأننا جيل غير مثقف وغير منتج ونسوا المتهم الاساسي في هذا البهتان ..الا وهو المدرسة ومدرسيها-_-
    ولى عصر الحفظ والاستظهرا نحن اليوم في عصر لامكان لك فيه ان لم تكن مبدع
    رحم الله حالنا :D
    ,
    تحية لقلمك الجميل:)

    ردحذف
  13. انت مطفوق

    ردحذف

مدونة محمد أعمروشا مدوّنة شخصية في قالب مغربي، عن السفر، الهوايات وتجارب الحياة. أنشر فيها آرائي فيما يخصّ المنطقة العربية، التقنية وأحيانا تفاصيل حياتي الشخصية :)