24 يناير 2012

مأساة الوظيفة العمومية بالمغرب

لا أذكر متى سمعت عن أوّل مظاهرة للمعطّلين في الرباط، مطلبهم الرئيسي هو الوظيفة العمومية. كان هذا منذ زمن طويل جدا.. لا زال المطلب يتكرّر لحدّ الآن، مع تغيّر في الأشخاص، الأماكن وشكل المظاهرة حسب المواسم.

أزمة حقيقية نعيشها في المغرب، أزمة البطالة. تطلّ علينا التصريحات الحكومية بما مختصره أنّ حوالي 9% من المغاربة النشيطين عاطلون عن العمل، مصادر خارجية (تحظى بإنكار النظام غالبا) ترفع الرقم ل25%. الحكاية أنّ مفهوم التشغيل لدى النظام المغربي يحيد عن المنطق قليلا: فكونك "تشتغل" فلستَ بعاطل، لا يهمّ إن كنت تشتغل في جني الزيتون ومؤهّلك الجامعي إجازة في القانون الخاص، لا يهمّ إن كنت تشتغل في قطاع غير مقنّن أو غير معترف به أصلا، لا يهمّ إن كنت تحظى بتغطية اجتماعية أو لك تقاعد مريح.. المهمّ هو أنّك تقوم بشيء ما! وبالتالي فقد حقّقت الحكومة إنجازا ومعدّل البطالة في "مستوى منطقي".

يتحدّث المسؤولون عن عدم إمكانية تشغيل الدولة لجميع الخريجين، والذي يصل عددهم ل200 ألف سنويا. نفس التبرير أقرؤه في ساحات الحوار وتعليقات البوّابات الإخبارية. يبدو الأمر منطقيا: لا يمكن للدولة أن تشغّل الجميع، وبالتالي فالمطلب الرئيس للمتظاهرين (أي الوظيفة العمومية) غير منطقي، بطريقة أخرى: إبحثوا عن حلول أخرى غير التظاهر.

يبدو لي هنا سوء فهم للدور الذي "من المفترض" أن تقوم به الدولة: توفير الظروف الملائمة والعادلة لجميع الخريجين للعمل في القطاع الخاص، شيء غير دورها الحالي الأقرب لمكتب توظيف.

لكن، وللأسف، فالدولة لا تقوم بمجهود حقيقي لحلّ المشكلة. يتخرّج الطالب من الجامعة وفي يده إجازة أو ماستر، دكتوراه ربّما، في عقله الكثير من الكلام النظرّي (وهنا نعود لإشكالية النظام الجامعي، مرّة أخرى). لنفترض أنّ الشخص هذا والذي كان طالبا البارحة، هو اليوم باحث عن عمل، أراد إنشاء شركته الخاصة، أوّل ما سيصطدم به هي بيروقراطية الإدارة المغربية، تطلّب منّي إنجاز سجلّ تجاري سابقا 3 أسابيع (وطبعا كان بإمكاني الحصول عليه في دقائق، الجميع يعرف الطريقة). وحتى لا أستمرّ في مسلسل انتقاد الواقع دون عرض حلول كما تقول سناء، هذه حلول في البال:
  • أيّا كان تخصّص الطالب فله إمكانية الاستفادة من مواد جانبية عن المقاولات، إنشاء الشركات وتسييرها، نظرة قانونية للموضوع... المطلوب هو أن يتخرّج الطالب ولديه سابق معرفة بالقطاع الخاص، بل ولم لا يكون مشروع التخرّج تأسيس شركة تقدّم خدمات ما في مجال تخصّصه؟ أعرف الكثير من أصحاب الشواهد العليا وإن سئل عن الفرق بين الشركة مجهولة الإسم والشركة ذات المسؤولية المحدّدة. شيء آخر: من نتائج النظام الجامعي قتل روح المبادرة والعمل الخاصّ لدى الطالب، لم لا إعادة إحياء الروح تلك والتشجيع على استغلال الفرص المتاحة في القطاع الخاص؟
  • الإستثمار، النقود بعبارة أبسط، لا أدري لم عليّ صرف حوالي 7000 درهم (..) من أجل تأسيس الشركة وحسب! ناهيك عن حكاية رأس المال والمقرّ والكثير من العراقيل. تخفيض الإجراءات الإدارية لأدنى حدّ ممكن (ألم يسمعوا عن التجربة الكندية في تأسيس الشركة، عبر شبّاك وحيد، وخلال دقائق؟)، تخفيض المبالغ المالية اللازمة للتأسيس (ألم يسمعوا عن دول عديدة، بعضها متقدّم وبعضها من العالم النامي، تتيح تأسيس الشركات مجّانا؟)، وإعفاء حقيقي من الضرائب في البداية، بكلّ تأكيد ستكون حلولا مساعدة على توفير فرص شغل كثيرة.
  • لماذا لا تضمن الدولة لكلّ صاحب شهادة عليا، إمكانية الحصول على قرض بدون فوائد وبدون قيود زمنية؟ مبلغ مالي كاف للاستثمار أو على الأقلّ الدخول في الدوّامة، على أن يردّه لاحقا في حال نجاح مشروعه، حصوله على وظيفة أو أيّ طريقة أخرى.
على الدولة أن توفّر الظروف المناسبة والكفيلة ببدء أيّ نشاط تجاري مرغوب من طرف حاملي الشواهد العليا، حينما نقول إنّ الدولة غير قادرة على توفير مناصب شغل للجميع فهذا لا يعني أنّها غير مسؤولة عن الوضع المتردّي الذي يعيشه القطاع الخاص. فالبعض وإن أتيحت له فرصة العمل في شركة خاصة يرفضها، لا يرضى بغير الوظيفة العمومية، له مبرّراته طبعا:
  • المبرّر الأوّل أنّ القطاع العام "أكثر أمانا". قرأت سابقا كتابا عن نهضة ماليزيا وفيه أنّ مهاتير حرص على أن تكون الإمتيازات التي يحظى بها القطاع الخاص أكبر من تلك في القطاع العام. النتيجة كانت مذهلة. يبدو أنّنا بعيدون عن هاته المرحلة فالمطلوب في المغرب هو المساواة بين القطاع الخاص والعام، بطريقة أخرى: تأمين اجتماعي واحد، نظام تقاعد واحد، قانون مشغّل واحد، امتيازات اجتماعية واحدة (اختلاف الفوائد البنكية بين القطاعين، أيّام عطل وفترات عمل متباينة...). على الدولة إذابة الفروقات بين القطاعين، والعمل على تحويل مقولة "القطاع العام أأمن" لجزء من تاريخ المغرب الماضي.
  • في الوقت الذي يضمن فيه موظّف القطاع العام راتبا مدى الحياة فأصحاب القطاع الخاص متوجّسون من احتمال طرد تعسّفي أو غياب سلطة القانون، ولم لا إفلاس غير متوقّع للشركة. على النظام القضائي أن يكون محايدا وسلطته فوق الجميع، المواطن فقد جزئيا ثقته في الجهاز القضائي..
  • أحيانا أفكّر: لم لا يكون القطاع العامّ بعقود محدّدة الأجل، أقصى مدّة لأيّ عقد بدءا من رئيس الحكومة إلى حارس الملحقة الإدارية هي 10 سنوات، بعدها يلزم الموظّف باجتياز اختبار كفاءة ومقدرات مهنية للحفاظ على منصبه، أو الإنتقال لمنصب أعلى، أو الاستغناء عن خدماته الجليلة! لدينا الكثير من الموظّفين الأشباح، وكذلك الموظّفون الذين لا يقومون بأيّ أعمال جدّية،  آخرون تراجعت كفاءتهم المهنية فما تعلّموه ف السبعينات غير صالح لزمننا هذا، وأخيرا معظم الموظّفين ينقطعون عن التعلّم بمجرّد الحصول على الوظيفة! أخبرني صديق عائد من اليابان أنّ جميع الموظّفين هناك ملزم بساعتين في الجامعة كلّ أسبوع، لكي يحافظ على مكتسباته ويبقى مسايرا لمستجدّات العصر.
قبل الدخول في بقية التفاصيل، فكلّ ما ذكرته فوق لا يسمن ولا يغني من جوع إذا لم يعط المسؤولون الحكوميون صورة حسنة عن الوظيفة العمومية، وإذا لم ينطبق عليهم القانون!

ما معنى الثرثرة فوق في ظلّ سيطرة أسر محدّدة على كثير من المناصب السيادية في المغرب، أسرة الفاسي الفهري مثلا؟ أيّ قيمة للمال العام إذا اكترى الوزير سيّارة أودي8 بأكثر من قيمتها الفعلية من ميزانية الشعب، كما تداول الإعلام مؤخّرا؟

أذكر يوم عيّن الملك عبّاس الفاسي على رأس الحكومة في الوقت الذي يحمل فيه هذا الأخير تهمة تسمّى فضيحة النجاة، عن توفير فرص شغل لكثير من المغاربة وآمال موهومة ونقود قد صرفت، فكانت "التشريف" أن صار وزيرا أوّلا! يبدو أنّ "الإشارة المولوية" واضحة فكان أن وفّر الوزير مناصب شغل كافية، لكن لأولاده وأحفاده وأهل بيته الكرام :)

للموضوع تتمة.. 









تعليقات فيسبوك:


هناك 5 تعليقات:

  1. أشاطرك الرأي محمد في كل ماقلت ، غير أنه ليس من سبيل لتطبيق ما قلت سوى :) أنت عارف
    أعجبني اقتراح العشر سنوات
    فعلا بعض الموظفين في القطاع العمومي لا يقومون بشيء سوى سحب الراتب

    ردحذف
  2. أتفق معك محمد فيما قلته، وأقيم نصائحك واقتراحاتك
    وعندي ملاحظات رغم ذللك
    ربماسأقولها لاحقا
    وربما لا

    ردحذف
  3. وأخيرا رفعت الحصار عني ،

    ردحذف
  4. أنت محق فيما قلته، لكن تطبيق جل ما اقترحت بعيد المدى، علينا الآن أن نفكر في خطوات عملية قريبة المدى. فالمشكل لا يكمن في سن القوانين بل في تفعيلها، لدى فما على المسؤولين البدأ به هو تطبيق على الأقل القوانين الجاري بها العمل.

    ردحذف

مدونة محمد أعمروشا مدوّنة شخصية في قالب مغربي، عن السفر، الهوايات وتجارب الحياة. أنشر فيها آرائي فيما يخصّ المنطقة العربية، التقنية وأحيانا تفاصيل حياتي الشخصية :)